فى ميدان الفن …أسرار إبراهيم شلبى
أسرار إبراهيم شلبى
بقلم د : ايهاب الملاح
1- فى عام 1975 قدم طارق حبيب برنامجه الشهير “أوتوجراف” , واستضاف محمد عبد الوهاب فى أهم حلقاته وأمتعها , لولا الذبابة التى عكرت صفو الحديث , وقرفت الأستاذ عبد الوهاب منذ بداية الحلقة , حتى حطت على رأس الأستاذ المشهور بالأَنَفة , فضحك وقال : الدبانة دى عِشرية لازم كده !..
فى اليوم التالى كتبت الصحافة المصرية عن الحلقة , وأشارت لواقعة الذبابة , وسموها “ذبابة التلفزيون” .. وبدأت حملة صحافية ساخرة استمرت شهورا , اشترك فيها الكتاب ورساموا الكاريكاتير , وبدا أيضا أن تلك الذبابة لم تفارق استوديوهات ماسبيرو للآن , فكأنها تحتفظ لنفسها بحق الرد على الصحافة اللاذعة , لكن أيضا عبر شاشات التلفزيون ..
أنا من الناس اللى بتحترم الذبابة , بينما أحتقر الناموس . لأن الناموس يقرصك وانت نايم , ويباغتك كالجبناء من الخلف .. أما الذبابة تجيلك فى وشك وتقف على عينك ولا يهمها , جريئة , رخمة , تتحدى أتخن تخين , تخرجه عن وقاره ويقوم يجرى وراها لحد ما ينهج , ثم يجدها تعود عليه بذات الهمة ونفس اللحاحة !.. وعندما قولت لك أنا واحد من الناس إللى بتحترم الذبابة , كنت أعنى “بالناس” قدماء المصريين ..
فى الطابق الثانى بالمتحف القديم زرت حجرة الذهب , وفيها مجوهرات الملكة “إياح حتب” زوجة الملك “سقنن رع” محارب الهكسوس .. ومن أعجب ما رأيت هناك وسام الثلاث ذبابات من الذهب , أعلى وسام عسكرى عند الفراعنة , ويماثل عندنا رتبة المشير -عفوا السيد المشير- .. المهم أن المصرى القديم كان مقتنع إن الذبابة رمز للنضال والصمود والصبر بدأبها وإصرارها الرائع .. أيضا حولنا من المبدعين نماذج لهذا الصبر المسرف وهذا الصمود الممتد .. ولو قدر لى إذن أن أمنح جائزة الذبابة لمنحتها لإبراهيم شلبى , -عفوا السيد إبراهيم شلبى- ..
2 – بدا طويلا مهيبا ثاقب النظرات جاد القسمات , كأنه محافظ كفر الشيخ إذا ارتدى بدلة , أو كأنه على هيئته الرياضية رئيس فريق إنقاذ شاطئ بلطيم لو لبس كاجوال .. لكنه على كل حال فنان تشكيلى معروف , هو أيضا زاهد فى سكنى القاهرة , فلازال مقيما فى بلدته .. ولا تحسبن فنان القرية العصامى كفنان المدينة المترف , ولا تظنه كرجل قاهرى , ياخد فى إيده الزبالة الصبح وهونازل شغله , ويجيب عيش فينو وهو راجع بالليل .. فنان القرية ما بيخافش زينا , ولاحتى من مؤسسات الدولة والحكومة , بينما نحن نسمى لامؤاخذة “المدام” بالحكومة .. وهو فنان بطابع خاص ومزاج آخر .. فنان يَعتبر لبس الكرافتة خَنفَسة , بينما نحن فى المدينة نلبس فيونكة فى رقبتنا عادى ونسميها “بابيون” .. وفى الموسيقى يهوى أغانى الترحال والغربة والمغامرة .. زى يامسافر وحدك , ويابور قولى رايح على فين , وزى أنا كنت مسافر فى الصحرا وبكح تراب .. بينما نحن فى المدينة نفضل أغنية الأستاذ حمادة هلال , دايما دموع .. دموع … وبينما فتاة أحلامك هند صبرى ومنى زكى , ففتاة أحلامه هياتم وفريدة سيف النصر ..
3- حقيقة أنا معجب بتجربة هذا الرجل .. رسم مناظر الشواطئ بأحجام كبيرة بغرض العرض , ورسم لوحات نسخها من فنون الإستشراق بغرض التكسب , والأهم طبعا له تجارب معتبرة قضيتها الخروج من مفهوم اللوحة المعتادة , لكنها مخزنة مع الأسف لم تعرض ولم تنل حظا من الضوء .. ومع ذلك فصاحبنا لم يتخرج فى كليات الفنون المعروفة , وأظن أن مبعث ذلك ربما كان اعتراضه على دراسة مادة التشريح التى تعنى بدراسة الجسم العارى , بما فى ذلك الجهاز التناسلى . حيث تؤرقه بلاشك أخلاق القرية فيتردد عن الدراسة الأكاديمية فى معاهد الفن .. ولو كنت أنا من مسؤولى كليات الفن , لشيلت لابراهيم شلبى الجهاز التناسلى الذى يؤرقه –أقصد شيلته من المنهج طبعا مش من شخصه أعزه الله- ..
أيضا فهو رجل ذو تجربة نموذجية , رغم كونه لم يدرس الفنون , فقد انتخب عضوا بمجلس إدارة نقابة التشكيليين بالقاهرة .. تقديرا من المنتخبين لجهوده فى الإبداع , وقيمته الإنسانية .. وأتهيأ الرجل حالما وصل لدار النقابة الغراء بعد انتخابه فى تاكسى “بيجو” 7 راكب . يستقبله حينئذ وكيل النقابة الشيك –والشيك هنا تعود على الوكيل طبعا لا على النقابة- , واستقبلته أيضا السيدة رئيسة مجلس إدارة النقابة الفاشلة –والفاشلة هنا تعود طبعا على النقابة لا على السيدة- .. بينما يلهج خطباء الجمعة فى بلدته بالدعاء له فوق المنابر , لا غرو فهو ابن الريف النجيب وسليل الشلبية الذى دخل التاريخ من شارع قصر النيل , وفى وشك على طول دار الأوبرا العامرة حيث ميادين الفن وحقول الثقافة , عوضا عن ميدان المحطة وحقول الذرة العويجة
..
4 – ويستعرض إبراهيم شلبى تجربته فى الفن بتواضع جم , ونبرة هادئة وصوت خفيض , تشوبه بحة تضيف شجنا موازيا للحديث , وحالما لا ينطق الحرف الأخير من بعض الكلمات فيقول مثلا : أنا كلمت الدكتور “عادى” .. وهو يقصد طبعا أنا كلمت الدكتور عادل .. ويقول : وروحت النقابة وقعدت أخبط ع “البا” .. يقصد الباب .. وهكذا .. وينطق قعدت بألف مكسورة وعين مكسورة “إِعِدت” .. وعلى وزنها “عِمِلت” … وهكذا . أتمثله أحيانا كالشاعر عبد الرحمن الأبنودى . كانت لهجته كل لغته التى تحمل وحيه وخياله وعالمه الكبير , وأحب فى إبراهيم شلبى أيضا كونه غير متكلف ولا مدعى , صادق , حقيقي , بسيط ..
5 – كل إنسان منا له أسرار , وربما تخطت الأسرار نوازع الإنسان للحيوان , من سنوات كنت أربى الأرانب فى مزرعتى الصغيرة بالمريوطية . فعرفت أن الأرانب تخفى صغارها تحت التراب , وتعتبر محل رضيعها سرا حتى يشب , والكلب كذا يدفن العظم فى التراب , ثم يعود فيلهو مع الكلاب , بينما يكتنف هذا السر العظيم لغذائه فلا يفشيه لغيره أبدا . كلنا تلك الأرنبة وكلنا هذا الكلب .. –عفوا أقصد السيد الكلب- .. لكن أيضا أسرار إبراهيم شلبى شيئ آخر !..
عندما أرسل لى صاحبنا مجمل أعماله , تنوعت بين البدايات والمآلات .. دراسات بالقلم واسكتشات سريعة لكنها غاية فى التمكن والفهم , حتى اللوحات المشهورة والتى عرض منها مؤخرا فى المعرض العام .. والواقع بخصوص لوحات الشاطئ , فكثير من فنانى العالم قد اهتم بذات الموضوع ولا سيما فى مدن اوروبا الساحلية .. صحيح كل بأسلوبه وزواياه , لكن أيضا ثمة تشابه كبير بين بعض تلك الأعمال وأعمال إبراهيم شلبى , نفس الجو مع تقارب فى استخدام الضوء وبناء اللوحة .. من هؤلاء الرواد بالمناسبة الفنان الأمريكى “إدوارد هنرى” 1857-1927 .. وتأتى أعمال إبراهيم شلبى فى ذات الموضوعات لكن بحس مصرى وتفاصيل محلية , وأيضا كمحاولة للحاق بالأساتذة والرواد الكبار الذين سبقوه , إنما تبقى أعماله فصلا ثانيا لتلك السوابق , وفى النهاية سيعتبر العالم على كل حال أنه تأثر بمن سبقوه , ولعله حاول اللحاق بهم قدر الحيلة . وتتبقى فى المحصلة نسختان لك أن تفاضل بينهما أو لا تفاضل .. مع ذلك فانا أرى شغل إبراهيم شلبى فى هذه الموضوعات , كأنك لابس تيشيرت مكتوب عليه “أبيباس” وانت مقتنع إنه أديداس , وزى ماتكون شارى شفاط مكتوب عليه “سونيا” وانت قريتها “سونى” ..
٦- والكلام هنا يبدأ حين تكتشف بأن إبراهيم شلبى يُخفى تجاربه المهمة , فلديه مجموعة كبيرة من الأعمال غير المعروضة ذات الفرادة التى تختلط بفلسفة ورؤية , فيحتفظ بها كسرٍ مخزون . أعمال فنية تتسم بسمات ما بعد الحداثة .. وسمات ما بعد الحداثة ذات بعدين :-
أولا : الفكرة .. والفكرة فى فنون ما بعد الحداثة أصبحت تسبق العمل الفنى , بينما كانت الفكرة فى الفن المعاصر تتوازى مع العمل الفنى .
ثانيا : المعالجة .. والمعالجة فى فنون مابعد الحداثة تخرج بالعمل الفنى عن نطاق اللوحة , ونطاقات التعبير المجسم القديمة .
وبالتالى فإن مدارس مابعد الحداثة التشكيلية منها فنون مختلفة , تهتم بما كان مهملا قبلها , ولا تعترف بفصل القوالب التشكيلية , حسب “ليوتار” 1924-1998فيلسوف هذه النزعة .
وجدت فى تاريخ إبراهيم شلبى أعمالا واضحة الفكرة , شخوص يعبُرون داخل صندوق أسود مغلف بشبك من المعدن , كإشارة لصعوبة الهدف أو ربما لهشاشة المانع .. ومومياوت نموذجية بيضاء فى حراسة شخوص سود وبلمسة مصرية قديمة .. وأهرامات ملونة ببساطة وتلقائية توحى بمحاولة لفحص مكنون السر الغامض .. ذلك السر وتلك الأسرار التى التبست بأعماله المهمة أو قل الأهم , فأرجو إذن أن أثنى الفنان الكبير إبراهيم شلبى بتلك المقالة عن إنتاجه الذى اعتدناه , فعساه بعد تلك التجارب المتصلة وهذا التاريخ الفذ , أن يتفرغ للأعمال المجسمة والتجهيز فى الفراغ , حتى يحول سره الرائع للعلن الذائع .
إيهاب الملاح